التضييق على الناس في حياتهم بين العقوبة والابتلاء

كدر في المعيشة، وتنغيص في الحياة، وضيق في الصدر، وقدر مؤلم ..
     
طوابير أمام المصارف، بسبب تقص السيولة؛ طوابير أمام محطات البنزين، انقطاع طويل للكهرباء، غلاء فاحش في الأسعار، مهجَّرون عن ديارهم، سجون مليئة بالمظلومين، دعاة حياتهم في خطر لأجل كلمة طيبة صادقة، فضلاً عن إزهاق أرواح بريئة، وسفك دماء معصومة ..
التضيِّق على الناس في حياتهم، ومعايشهم..
لاينبغي أن يغيب عن الوعي والعلم أن الله تعالى برحمته وحكمته ينغص الحياة على عباده، ويكدرها عليهم، لئلا يسكنوا إلى الدنيا ولا يركنوا إليها  ولا يطمئنوا بها ..
 
لأن الرحيم الكريم يريد أن يرحمكم ويكرمكم وينعمكم في النعيم المقيم في دار كرامته، وجواره، فساقكم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان، فمنعكم ليعطيكم، وابتلاكم ليعافيكم، وحرمكم ليكرمكم .

ونحن المسلمين قسمان: فمنا الطائعون ومنا العاصون

أما الطائعون فهذه المنغصات ابتلاءات وكفارات ودرجات عاليات، عند رب البريات.

وأما العاصون فهذه المنغصات إنذارات ومنبهات وعقوبات وكفارات..
 
ومن العاصين من كان سببًا في هذه المكدرات والمنغصات، فالويل له ماذا صنع، والثبور له ماذا فعل !!!

ومن لم يتسبب في هذه المنغصات من العصاة بمباشرة أسبابها كالطائفة الأولى..

 لكنه بمعاصيه وذنوبه تسبب في هذه المحن والشدائد كما قال تعالى:﴿ ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
وقوله:( بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بسبب معاصيهم وذنوبهم   
كما في قوله تعالى: ( وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
وقوله سبحانه: ﴿ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾

وهذه العقوبات للعصاة – المسلمين - تحمل في طياتها محبة الله لهم، وإحسانه إليهم، وإرادة خيرهم وسعادتهم باعتبار العاقبة والمآل !

كما صح عن أنس - رضي اللَّه عنه- قال : قال رسولُ اللَّه - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم-  :
« إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بعبْدِهِ الخَيْرَ عجَّلَ لَهُ الْعُقُوبةَ في الدُّنْيَا، وإِذَا أَرَادَ اللَّه بِعبدِهِ الشَّرَّ أمسَكَ عنْهُ بذَنْبِهِ حتَّى يُوافِيَ بهِ يَومَ الْقِيامةِ » رواه الترمذي

وَعنْ أَبي سَعيدٍ وأَبي هُرَيْرة - رضي اللَّه عَنْهُمَا - عن النَّبيِّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم - قَالَ : «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه » متفقٌ عليه .
(نصب) تعب
(وصب) مرض
(هم) كره لما يتوقعه من سوء
(حزن) أسى على ما حصل له من مكروه في الماضي
(أذى) من تعدي غيره عليه
(غم) ما يضيق القلب والنفس
(خطاياه) ذنوبه

وعنْ أَبي هُرَيرة رضيَ اللَّهُ عنه قال : قال رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ » : رواه البخاري .

(يصب منه) يبتله بالمصائب والمنغصات في الدنيا حتى يلقى الله تعالى نقيًا مطهرا من الذنوب.

 
وليكن منكم على علم: أن عظم الجزاء والثواب والأجر، مع عظم البلاء والمحن والشدائد .  
فعن أنس - رضي الله عنه- قَالَ : قَالَ النبِيُّ - صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم - : « إِنَّ عِظَمَ الْجزاءِ مَعَ عِظَمِ الْبلاءِ ، وإِنَّ اللَّه تعالى إِذَا أَحَبَّ قَوماً ابتلاهُمْ ، فَمنْ رضِيَ فلَهُ الرضَا ، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ »  أخرجه الترمذي  و ابن ماجه  
 
فهذا الحديث يدل على أن البلاء خيرٌ وبركة وعطاء ، وأن المبتلى محبوب عند الله تعالى، إذا صبر على بلاء الله تعالى له ، و رضي بقضائه وقدره .

ويدل على ذلك ما رواه مسلم عن صُهَيْبٍ - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ »    .  
فهنيئًا لمن صبر واحتسب الأجر عند رب البشر، ولم يتسخط ولم يجزع لنوائب الدهر.
 
 قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾

وأخيرًا : مع استدعاء هذه النظرات الشرعية، والمعاني والحقائق الإيمانية ، واحتساب أجر هذه المعاناة عند رب البرية، تتحول البلية عطية، وتنقلب المحنة في حقه منحة، ويصير المكروه محبوبًا، ويستيقن المؤمن أن الله تعالى لم يبتله بالمصائب ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن ويختبر صبره وعبوديته.

وحينئذ نقول: والله وبالله وتالله لئن أخذتَ لكم أعطيتَ، ولئن ابْتَلِيتَ لكم عافيتَ، ولئن منعتَ لكم منحتَ .  

ولله در القائل :

قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ * وَيَبْتَلِى اللهُ بعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ