"مُصْطَلَحُ الْسَّلَفِيةِ بَيْنَ الْصَّحَابَةِ وَالْسَّلَفِيينَ " ..
أو " مُصْطَلَحُ الْسَّلَفِيةِ وَنَقْدُ الْسَّلَفِيينَ "
تمهيد
اعترىَ مفهومَ الْسَّلَفِيةِ غبشٌ كبيرٌ، وغموضٌ شديدٌ، وجهلٌ مركبٌ ويسيرٌ، وسوءُ فهمٍ وتصورٌ مغلوطٌ .
وتناقضتْ واضطربت واختلفت مفاهيمُ الناسِ لِمَضَامِينِ الْسَّلَفِيةِ، وحقيقتِها، تناقضًا كبيرًا بين من يراها تخلفًا وجهلاً وتقليدًا وجمودًا !!!
وبينَ منْ يراها أمرًا لاوجودَ له، ولاحقيقةَ لمعناهُ، وأنها وَهْمُ وخرافةٌ !!! وبينَ منْ يراها علمًا وتجديدًا، ومنهجًا رشيدًا، واتباعًا سديدًا .
وكثرَ الكلامُ اليومَ حولَ الْسَّلَفِيةِ، وكثرتْ عباراتُ الذمِّ والاْتِّهامِ، والنَّقدِ الْهَدَّامِ وَالْبَنَّاء، - لِلسَّلَفِيةِ وَالْسَّلَفِيينَ - علىَ حدٍ سواءَ !!! .
وفي كثيرٍ منَ الأحيانِ لا يفرقُ النَّاقدُ والذامُّ بينَ نقدهِ لِلسَّلَفِيةِ باعتبارها= أصلاً ومنهجًا ومعيارًا وميزانًا وهوَ ما كانَ عليهِ الصحابةُ - رضي اللهُ عنهم - أصالةَ، والتابعونَ لهمْ تبعًا " وبينَ نقدهِ لِلسَّلَفِيةِ باعتبارها= أفرادًا وجماعاتٍ يطبقون الْسَّلَفِيةِ ، ويمارسونها عملاً وسلوكًا واجتهادًا يصيب ويخطئ ..
وقد كتبتُ كلمات واضحات، وجمل مختصرات، وعبارات محررات، أحسب أني وضعت فيها النقاط على الحروف، وقربت فيها المعاني من حقيقتها، وتكلمت فيها عن الْسَّلَفِيةِ وما لها وما عليها، وعن السلفيين وقربهم وبعدهم منها، متجردًا من كل هوى يحجب بعض حقها، ويُخْفِي شيئًا من معالمها ومضامينها ومفاهيمها .
سائلاً المولى - تعالى - أن يبارك فيها، وينفع بها، ويجعلها موافقة للحق والصواب، سالكة طريق السنة والسداد، مشتملة على الهدى والرشاد.
كتبه : محمود بن موسى
الْسَّلَفِيةُ لُغَةً واصْطِلاَحَاً
فالسلفية في اللغة تعني : التقدم والسبق. قال ابن فارس: « سلف؛ السِّينُ وَاللاَّمُ وَالْفَاءُ أصل يدل عَلَى تَقَدُّمٍ وَسَبَقٍ، مِنْ ذَلِكَ السَّلَفُ: الَّذِينَ مَضَوْا، وَالْقَوْمُ السُّلاَّفُ: الْمُتقَدِّمُون » وقد جاء استعمال كلمةِ سَلَفَ في القرآن الكريم للدلالة على معنى الْتَّقَدُمِ وَالْسَّبَقِ كقوله تعالى: ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ أي: قدمتم في الدنيا.
وقوله تعالى: ﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ﴾ أي: سَبَقَ وَتقَدَّمَ وقد جاءت السنة النبوية المباركة بمعنى السَّبَقِ وَالْتقَدُّمِ كما في قول النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لاِبنَتِهِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - « فَإِنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ» رواه البخاري ومسلم .
وَأما اصطلاحَاً: فالمقصود بمفهوم الْسَّلَفِيةِ أصالةً = ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - وتبعًا : كل من اتبع نهجهم، وسلك سبيلهم، وسار على طريقتهم من أصحاب القرون التالية .
فالصحابة (هُمْ الْسَّلَفُ) ويدخلون دخولاً أوليَّاً في المقصود والمراد بمفهوم الْسَّلَفِيةِ .
فَالْسَّلَفِيةُ = طريقة الْسَّلَفِ ( الصحابة ) في فهم الإسلام وتلقيه، وتطبيقه، وممارسته .
حَقِيقَةُ مَفْهُومِ الْسَّلَفِيةِ
وَالْسَّلَفِيةُ بهذا المفهوم هي= منهج معرفيٌ متكامل، ومنظومة علميَّةٌ عقدية وفقهية منضبطة في أصولها، مستنبطةٌ من أدلة الكتاب والسنة، متمثلة في إجماع الْسَّلَفِ الصالح (الصحابة أصالة) - رضي الله عنهم - .
ويخرج بهذا المفهوم = قولُ آحادِ الصحابةِ، واجتهادُ أفرادِهم وأعيانِهم.
فليس المقصود بما كان عليه الصحابة = ما كان عليه كل واحد منهم بعينه، لأن الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة؛ فليس المراد بفهم الْسَّلَفِ ، ما كان عليه أفرادُهم، وإنَّما ما كان عليه مجموعُهم، إمَّا على سبيل الاتفاق، وإما على سبيل السكوت، وهو ما يعبر عنه العلماء : بـ (الإجماع السكوتي) بدليلِ أنَّ الصَّحابة - رضي الله عنهم - كانوا يختلفون، وكان يردُّ بعضهم على بعضٍ، ويخطِّئ بعضُهم بعضًا.
فإن اختلف الصحابة، فالعلماء ينظرون في اختلافهم، ويرجحون بين أقوالهم، بحسب القواعد والأصول والأدلة المعروفة عند أهل العلم بطرق الترجيح بين الأقوال، وليس لأحدٍ أن يدَّعي أن قول هذا الصحابي هو منهج الْسَّلَفِ، أو أنه المقصود بفهم الْسَّلَفِ، إلاَّ من حيث الخلافُ المعروف بين علماء الأصول في قول الصحابي، وهل هو حجة أم ليس بحجة ؟، من غير ادِّعاء أن هذا هو = فهم الْسَّلَفِ أو منهجهم .
« وَأَمَّا أَقوَالُ الصَّحَابَةِ؛ فَإِنْ انتَشَرَتْ وَلَمْ تنْكَرْ فِي زَمَانِهِمْ، فَهِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ تنَازَعُوا، رُدَّ مَا تنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ؛ وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ قَالَ بعْضُهُمْ قوْلًا وَلَمْ يَقُلْ بعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ، وَلَمْ ينتَشِرْ، فهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قوْلَيْهِ، وَفِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ» اهـ. من "مجموع الفتاوى" (20/14)
عَلاَقَةُ الْسَّلَفِيةِ بِالمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ
وليس المراد بفهم الْسَّلَفِ، أو منهج الْسَّلَفِ = الاجتهادات والآراء والترجيحات الفقهية، التي اختلف فيها أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم، ولا ما رجحه بعض العلماء والشيوخ المتقدمين أو المعاصرين، وإن قوي دليله، وظهر برهانه، واستبانت حجته، وكانت السنة صحيحة صريحة واضحة في ترجيح الناظر والمجتهد، فلا يقال إنه مذهب الْسَّلَفِ، وإنما يقال : هذا هو القول الراجح في المذهب الفلاني، أو عند العالم الفلاني، والفرق بينهما ظاهر .
مَنْ الْذِي يَدْخُلُ فيِ مَفْهُومِ الْسَّلَفِيةِ ؟
ويدخل في استعمال مفهوم ومدلول الْسَّلَفِيةِ = جميع التطبيقات العملية، والمقاربات العلمية، والاجتهادات الدينية، وسائر التمثلات والتحققات لما كان عليه ( السَّلَفُ ) الصحابة - رضي الله عنهم – وهي كل = الجماعات الْسَّلَفِيةِ التي جاءت ووجدت بعد الصحابة سواء تسمت بالسلفية، أو لم تُسَمِ نفسها بها، والتي تجتهد وتحاول أن تقارب وتسدد وتصيب وتوافق الأصول والمناهج التي كان عليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فبناء عليه يجب التفريق بين الْسَّلَفِيةِ باعتبارها = أصلاً ومنهاجًا ومعيارًا وميزانًا وهو " ما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - "
وبين الْسَّلَفِيةِ باعتبارها أفرادًا وجماعاتٍ يطبقون الْسَّلَفِيةِ، ويمارسونها عملاً وسلوكًا واجتهادًا يصيب ويخطئ ..
الْتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْسَّلَفِيةِ مِعْيَارَاً وَالْسَّلَفِيةِ تَحَقُقَاً وَتَطْبِيقَاً
ولذلك فيجب التفريق بين أمرين مهمين = الأمر الأول : مفهوم الْسَّلَفِيةِ باعتبارها أصلاً ومعيارًا .
والأمر الثاني: مفهوم الْسَّلَفِيةِ باعتبار التطبيقات والممارسات والتحققات للسَّلَفِيةِ .
فالأمر الأول المقصود والمراد بِالْسَّلَفِية = فهم السلف، وهم (الصحابة)، ووجوب اتباع ما كان عليه الْسَّلَفُ، وهو اتفاق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فهم الدين، وتفسير نصوص الوحيين .
ففهم (الصحابة) وسيلة ومعيار وميزان لحصر وضبط صواب وصحة الأفهام والأفكار والآراء والتأويلات التي قيلت في تفسير نصوص الكتاب والسنة .
وَالْسَّلَفِيةُ بهذا الاعتبار = أصلٌ ووسيلةٌ ومحدداتٌ ومعيارٌ لفهم الوحي، وضبط وحسم ما تنازع الناس في فهمه، واختلفوا في تأويله، من آيات الكتاب العزيز، وأحاديث الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم - . فاتفاق صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأصل والمعيار والميزان الشرعي الذي يجب الرجوع إليه لفهم وتفسير نصوص الكتاب والسنة..
وهذا هو المقصود الذي يريده أهل الحديث، وأصحاب العقائد السلفية، ممن جاء بعد الصحابة، والذين ألفوا في بيان عقيدة " السلف وأصحاب الحديث " .
فهذا الأصل هو = المعيار الصحيح، والميزان الدقيق، والضابط الشرعي العلمي، الذي يتم من خلاله معرفة وضبط وحصر صواب وصحة الأفهام والآراء والتفاسير والشروح، وهو المقصود بمذهب ومنهج وفهم (الْسَّلَفِ) الصحابة - رضي الله عنهم-، وهو الذي أراده الإمام ابن تيمية - رحمه الله – بقوله : « لَا عَيْبَ عَلَى مَنْ أَظْهَرَ مَذْهَبَ السَّلَفِ، وَانْتَسَبَ إلَيْهِ وَاعْتَزَى إلَيْهِ، بَلْ يَجِبُ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُ بِالِاتِّفَاقِ .
فَإِنَّ مَذْهَبَ الْسَّلَفِ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا؛ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْحَقِّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ دُونَ الْبَاطِنِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِ، فَتُقْبَلُ مِنْهُ عَلَانِيَتُهُ، وَتُوكَلُ سَرِيرَتُهُ إلَى اللَّهِ .
فَإِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا نَشُقَّ بُطُونَهُمْ . » الفتاوى(4/149)
وأما الأمر الثاني المقصود والمراد بالْسَّلَفِيةِ فهو = التطبيقات، والمقاربات، والاجتهادات ، وسائر التمثلات لما كان عليه ( الْسَّلَفُ ) الصحابة - رضي الله عنهم -، وهي = كل الجماعات الْسَّلَفِيةِ التي جاءت ووجدت عبر تاريخ المسلمين بعد الصحابة، والتي تجتهد وتحاول أن تقارب وتسدد وتصيب وتوافق المنهج والفهم الذي كان عليه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
مَنْ الْذينَ يَدْخُلُونَ فِي الْسَّلَفِيةِ بَعْدَ الْصَّحَابَةِ؟
ويدخل في ذلك دخولاً أوَّليًا = التابعون، وتابعوهم، من القرون المفضلة؛ فكل تطبيقاتهم ومقارباتهم واجتهاداتهم هي= محاولات لإصابة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه- رضي الله عنهم - .
ومنهم الأئمة الأربعة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة والعلماء -رحمهم الله تعالى- .
فكل اجتهاداتهم، ومقارباتهم، وتطبيقاتهم هي = محاولات لإصابة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - .
الْجَمِيعُ مُتَفِقُونَ نَظَرِيَاً عَلَى مَرْجِعِيةِ الْصَّحَابَةِ
قد اتفقت كلمةُ جميع التيارات الْسَّلَفِيةِ، بل وبعض المسلمين حتى من غير الْسَّلَفِيينَ على الموافقة والإقرار - ولو نظريًا - بمرجعية اتفاق (الْسَّلَفِ) وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - . فجميع الدعوات الْسَّلَفِيةِ على مر التاريخ – هي محاولات – لإصابة ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ومع ذلك لا يملك أحدٌ - كائنًا من كان – لا نحن ولا غيرنا، أن يَدَّعي أنه أصاب ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - رضي الله عنهم - بتمامه وكماله، وإنما غاية أمرنا = أن نجتهد ونسدد ونقارب، ونحاول أن نصيب، ونبذُل جهدنا في تحقيق مناط ما نحن عليه من = علم وعمل واعتقاد بما كان عليه الأسلاف الصالحون.
فجميعنا = محكومون ومحجوجون بفهم الْسَّلَفِ، وكل ما نعتقده ونقرره، وندعو إليه من عقائد، أو مناهج، أو أصول، أو دلائل، أو أفهام؛ هو دعوى، نحن مطالبون بإثبات برْهَانِها، وَبيانِ دَلِيلِهَا، وصحة حُجَّتِهَا، على موافقتها لما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - وهم الْسَّلَفُ
لَيْسَتْ الْعِبْرَةُ بِالْشِّعَارَاتِ
ولا ينفعنا - نحن ولا غيرنا-، ولا يُثْبِتُ صواب طريقتنا = رفع الشعارات البراقة لِلسَّلَفِيَةِ مثل = ( كتاب وسنة بفهم سلف الأمة ) و ( كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف ) ما لم نحقق ذلك بصدق الموافقة للأسلاف الصالحين، وبرهانِ ذلك = بثبوت النقل، وصواب الفهم، وسلامة وصحة الاستدلال، فيما ندَّعيه عنهم - رضي الله عنهم - .
وللتأكيد أعود وأكرر أنه يجب التفريق والفصل بين الْسَّلَفِيةِ = الأصل والمعيار والمنهج، وهي اتفاق أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- وبين الْسَّلَفِيةِ = التطبيقات والمقاربات والتحققات التاريخية التي جاءت بعد الصحابة - رضي الله عنهم - .
الْسَّلَفِيةُ مَنْهَجٌ وَلَيْسَتْ جَمَاعَةً
وبناءً على هذا المفهوم نقول: إن الْسَّلَفِيةَ = منهجٌ علميٌ، وليست جماعةً دعويةً، أو طائفة جهادية، أو حزبًا سياسيًا، أو هيئة رسمية .
فهي = منهجٌ وليست جماعةً، إلاَّ ما يقال في حق جماعة الصحابة - رضي الله عنهم - .
نَصِيحَةٌ مَنْهَجِيةٌ لِمَنْ أَرَادَ نَقْدَ الْسَّلَفِيةِ
فيجب على كل من أراد نقد الْسَّلَفِيةِ، أو انتقاد الْسَّلَفِيينَ، ألاَّ يتوجه بنقده للأصل وهو فهم الْسَّلَفِ! الذي هو اتفاق الصحابة - رضي الله عنهم - لأن الناقد نفسه ملزمٌ باتفاقهم، إذا أقَرَّ أنهم متفقون على هذا القول؛ فإذا رأى أن اتفاقهم غيرُ ملزمٍ له!!!، فهذه إشكالية عظيمة!، بل ضلالة جسيمة، لأنها تتصادم مع نصوص الكتاب والسنة القطعية، ويلزم منها لوازم خطيرة وفاسدة، لو لم يكن منها إلاَّ = إتهام أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - المخاطبة بالوحي ابتداءً - وهم الصحابة- بأنهم جميعًا أخطأوا فهم الوحي!!!، وأنه هو وحده من أدرك الحق والصواب !!! وكفى بهذه الرؤية، وهذا التصور = انحرافًا عظيمًا، وضلالاً مبينًا، تجعله خارج دائرة أهل السنة والجماعة، كحال الرافضة والخوارج والمرجئة والقدرية وأهل وحدة الوجود وغيرهم، ممن كانت = عقائدهم ومناهجهم وأفكارهم وأفهامهم منافيةً ومجافيةً لما كان عليه الأسلاف الصالحون ( الصحابة - رضي الله عنهم - ) .
وُجُوبُ وَفَرَضِيةٌ الْتِزَامِ اتِّفَاقِ الْصَّحَابَةِ
ولذلك يعتبر الإلزام باتباع السَّلَفِ اتفاق الصحابة -رضي الله عنهم - والتَقَيُّدِ بفهمهم ومنهجهم= أَمْرًا وَاجِبًا وَفَرْضَاً مُحَتَّمَاً للجميع، لا يسع أحدًا مخالفته، بدلائل الكتاب والسنة .
قال الله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [ التوبة آية 100] .
وقال تعالى : ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء : 115 ] .
والمقصود " بسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ" الواجب اتباعه= ما أتفقوا عليه من الدين علمًا وفهمًا وعملاً، وهو أمرٌ محتمٌ وفرضٌ لازمٌ، لا مناص منه لمن أراد أن يكون من أتباع سيد المرسلين، ويفوز برضى رب العالمين، كيف لا، و قد صح عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: « خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ » متفق عليه .
فتقرير هذا الأصل العظيم، والإلزام بفهم السَّلَف المبَجَّلين، الصحابة الميامين، - رضي الله عنهم أجمعين - والاحتجاجُ بما كانوا عليه من الدِّين القويم، والفَهم المستقيم، أمرٌ معروفٌ وثابتٌ ومستقرٌ من زمنِ الصَّحابة - رضي الله عنهم - .
وقال تعالى مخاطباً نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - : ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ فقوله : ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ " - أي الناس جميعاً - بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ " وقوله : ﴿ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ ﴾ واضح الدلالة، في أن الهداية لا تحصل إلا بموافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في فهمهم وما اتفقوا عليه في سائر أبواب الدين .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً » وَفِي رِوَايَةٍ قيل : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : « مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي » وفي لفظ : « هِيَ الْجَمَاعَةُ » رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم .
وتأمل في مناظرة ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- لِلخَوَارِجِ وَ قَوْلهِ : « لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اعْتَزَلُوا فِي دَارٍ، وَكَانُوا سِتَّةَ آلاَفٍ، فقُلْتُ لِعَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: لَعَلِّي أُكَلِّمُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ. قَال إِنِّي أَخَافهُمْ عَلَيْكَ، قلْتُ: كَلاَّ. فلَبِسْتُ ثِيَابِي، وَمَضَيْتُ إِلَيْهِمْ، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ. وَقلْتُ: أَتيتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ وَصِهْرِهِ وَعَلَيْهِمْ نَزَل الْقُرْآنُ، وَهُمْ أَعْرَفُ بِتَأْوِيلِهِ مِنْكُمْ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنهُمْ أَحَدٌ . » أخرجه أبو داود (4037) مختصرًا ، والنسائي في السنن الكبرى (8575) وابن عبد البر في جامع بيان العلم، وعبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في الكبير (10598)، والبيهقي في السنن الكبرى (16517). وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر - رحمه الله - « مَا جَاءَ عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - من نقل الثِّقَات وَصَحَّ عَن الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - فَهُوَ عِلْمٌ يُدان بِهِ، وَمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ وَلم يكن لَهُ أصل فِي مَا جَاءَ عَنْهُم فَهُوَ بِدعَة وضلالة، وَمَا جَاءَ فِي أَسمَاء الله وَصِفَاته عَنْهُم نسلم لَهُ، وَلم نناظر كَمَا لم يناظروا، وَرَوَاهَا السّلف وسكتوا عَنْهَا، وَكَانُوا أعمق النَّاس علمًا، وأوسعهم فهمًا، وَأَقلهمْ تكلفًا، وَلم يكن سكوتهم عَن عي، فَمن لم يَسعهُ مَا وسعهم فقد خَابَ وخسر » اهـــ. من "جامع بيان العلم" [2/97]
ليس للصَّحابة فَهمًا خارجًا عن دلالات الكتاب والسُّنَّة
واعلم أيه الأخ الموفق= أن القول بوجوب الالتزام بمنهج ( السلف) وهو فهم الصحابة ليس خارجًا عن دلالات الكتاب والسنة .
وإنما معنى هذا الإلزام، والمقصودُ به= أنَّ الفهمَ الصَّحيحَ لنصوص الكتاب والسُّنَّة هو الفهمُ الذي كان عليه الصَّحابة -رضوانُ الله عليهم- بإجماعهم أو مجموعهم، وما اتَّبَعَهُ عليهم التابعون وأتباعُهم بإجماعهم أو مجموع خلافهم، وأنَّ كلَّ فهمٍ للكتاب والسنة يخالف ما كانوا عليه بمجموعهم، فهو غلطٌ وخطأٌ وانحراف بيقين .
وليس في هذا دعوة أو تقرير = أنَّ للصَّحابة فَهمًا خاصًا خارجًا عن دلالات الكتاب والسُّنَّة، - كما ظنه بعضهم - ولا أنَّ هذا الفهمَ مَصدرٌ آخرُ من مصادر التشريع والاستدلال، مُستقِلٌّ عن الكتاب والسُّنَّة؛ فضلاً أن يكون الالتزام به= التزامًا بما هو خارج دلالات الكتاب والسنة !!!. بل هو فرض من الفرائض، وواجب من الواجبات الشرعية، بمنزلة التزام الشرائع التعبدية كالصلاة والزكاة والصيام.
ويعتبر من ترك فهم الصحابة المجمع عليه قولاً أو عملاً، كمن ترك شرائع الدين، ويختلف باختلاف نوع المتروك، فيكون تركه معصية، ويكون بدعة، ويكون كفرًا - والعياذ بالله - إذا كان المتروك مما أجمع عليه الصحابة من قطعيات الإسلام، وثوابته العظام .
والالتزام باتباع الكتاب والسنة، هو التزام بما أجمع عليه الصحابة - رضي الله عنهم -، والالتزام بما أجمع عليه الصحابة، تمسك بالكتاب والسنة، فليس في إجماع الصحابة ما هو خارج دلالات الكتاب والسنة « .
ومذهبُ أهلِ السُّنَّة والجماعة مذهبٌ قديمٌ معروف قبل أن يخلُقَ اللهُ أبا حنيفةَ ومالكًا والشافعيَّ وأحمدَ ؛ فإنَّه مذهبُ الصَّحابة الذين تلقَّوه عن نبيِّهم، ومن خالف ذلك كان مُبتدِعًا عند أهل السُّنَّة والجماعة؛ فإنَّهم مُتَّفِقون على أنَّ إجماعَ الصَّحابة حُجَّةٌ، ومتنازِعون في إجْمَاعِ من بَعدَهم " منهاج السنة النبوية " [2 / 601]
« وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ لِمَنْ تَدَبرَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَمَا اتفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، أَنَّ خَيْرَ قرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ - فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَقوَالِ وَالِاعْتِقَادِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ فَضِيلَةٍ - أَنَّ خَيْرَهَا = الْقَرْنُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الَّذِينَ يلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يلُونَهُمْ كَمَا ثبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ الْخَلَفِ فِي كُلِّ فَضِيلَةٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَإِيمَانٍ وَعَقْلٍ وَدِينٍ وَبيَانٍ وَعِبَادَةٍ وَأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْبيَانِ لِكُلِّ مُشْكِلٍ .
هَذَا لَا يَدْفعُهُ إلَّا مَنْ كَابرَ الْمَعْلُومَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ » مجموع الفتاوى [ 4 / 157 - 158 ]
مَنْهَجِيَةُ الْعَدْلِ عِنْدَ نَقْدِ الْسَّلَفِيَّةِ وَالْسَّلَفِيِّينَ
فإذا كنا متفقين ومقرِّين أن اتفاق الصحابة - فهمهم ومنهجهم - ملزمٌ لنا جميعًا، فإِنَّ مَنْهَجِيَةُ الْعَدْلِ عِنْدَ الْنَقْدِ وَالْتَّخْطِئَةِ لمن أراد نقد الْسَّلَفِيَّةِ، باعتبار من ينتسب إليها، وبالضرورة ليس باعتبار أنها منهج السلف (الصحابة) - رضي الله عنهم- فليجعل محل بحثه ونظره ونقده متوجهًا إلى اجتهاداتهم وتطبيقاتهم وممارساتهم .
فكل ماندَّعِيهِ نحن، أو يَدَّعِيهِ غيرنا من الْسَّلَفِيِّينَ أو الناس أجمعين، أنهم = حققوا مناطه، ووافقوا فيه اتفاق الصحابة فيما كانوا عليه، فسيكون محل النظر، ومرتكز البحث والنقاش، أو النقد والتخطئة حول ثلاثة أمور مهمة :-
الأول = ثبوت ذلك عن الصحابة أصالةً، والقرون الفاضلة تبعًا؛ فهل ثبت اتفاق الصحابة؟ كما ندَّعي أَو تدَّعون أو لم يتفقوا ؟ فإذا ثبت اتفاقهم يأتي محل النظر، ومرتكز البحث والنقاش، أو النقد والتخطئة في الأمر
الثاني وهو = هل فهمنا أو فهمكم لهذا القول الذي اتفق عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والقرون الفاضلة، فهمًا صحيحًا، موافقًا لما كانوا عليه - رضي الله عنهم- في هذه المسالة خاصة، أم لا؟ فإذا ثبت اتفاقهم، وكان فهمكم لقولهم صحيحًا، ونظركم صوابًا موافقًا لفهمهم ونظرهم في هذه المسالة، يأتي محل النظر، ومرتكز البحث والنقاش، أو النقد والتخطئة في الأمر
الثالث = وهو تنزيل هذا المفهوم والتصور، وتحقيق مناطه على الواقع، وهل كان الصحابة، والقرون الفاضلة - رضي الله عنهم - سيتعاملون مع هذا القول والفهم والتصور، ويطبقونه عمليًا، ويمارسونه واقعيًا، وينشرونه دعويًا، أو عقديًا، أوسياسيًا، أوسلوكيًا، أو تعبديًا، أو نَقْدِيَّاً كما تفعلون أنتم اليوم أم لا؟!
هذا محل النظر، ومرتكز البحث والنقاش، أو النقد والتخطئة عند الْمُنْصِفِينَ الْمُدَّعِينَ لِلسَّلَفِيَّةِ، أَوْ غيرهم من الْنَّاقِدِينَ لِلسَّلَفِيِّينَ على حدٍ سواء.
إذًا يجب أن يكون اتفاق الصحابة= أصلاً ومعيارًا وميزانًا تُحَاكَمُ إليه كل الاجتهادات والمقاربات والتطبيقات الموجودة لجميع الناس عمومًا، ولِلسَّلَفِيِّينَ خصوصًا .
لاَ أَحَّدَ فَوْقَ الْتَّأصِيلِ الْنَّقْدِيِّ
وهذا الْتَّأصِيلِ الْنَّقْدِيِّ، والنقد التأصيلي، شامل لجميع الفرق، والطوائف، والأحزاب، والجماعات، والدعوات، القديمة والحديثة، فنقد كل الفرق العقدية القديمة = كالخوارج، والمعتزلة، والرافضة، والمرجئة، والقدرية، والأشاعرة، والدعوات الحديثة المعاصرة كالإخوان المسلمين، وجماعة التبليغ، والتيارات السلفية = العلمية، والجهادية، والمدخلية والحركية، ومن ذلك الدعوة النجدية الوهابية وغيرها .
وبالأخص التي تنتسب لِلسَّلَفِيَّةِ، وَلِمَا كان عليه الأسلاف الصالحون ( الصحابة ) والتي تجتهد وتحاول وتسدد تقارب لأجل أن تصيب ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - .
أَقْرَبُ الْنّاسِ لِمُوَافَقَةِ الْصَّحَابَةِ هم أهل الحديث
وأولاهم بموافقة منهج الصحابة، وألصقهم بهذا الوصف، وأقربهم لهذا الحق، وأحراهم بهذا الشرف هم طائفة أهل الحديث .
ومن المعلوم أن جميع التيارات الْسَّلَفِيةِ المنتسبة لِلسَّلَفِ، تخبر عن نفسها، وتدَّعي أنها أصابت الحق، وسلكت مسلك الأسلاف الصالحين ( الصحابة ) في المسائل التي اعتقدتها وتبنتها ودعت إليها.
فالناقد المنصف القائم بالقسط والعدل= يحاكم ما تقوله وتَدَّعِيهِ كل تلك الدعوات وغيرها لمنهج وفهم الصحابة - رضي الله عنهم -. فَمِنَ الضلال المستبين= إنكارُ أن إجماع الصحابة أصلٌ معياريٌ وميزانٌ منهجيٌ، أوترك الالتزام والعمل والتقيد به .
مِنَ الْخَطَأَ الْفَادَحِ تَحْمِيلِ الْسَّلَفِيةِ أَخْطَاءَ الْسَّلَفِيِّينَ
وليس من المنهج العلمي، ولا الانضباط المعرفي، ولا من العدل والإنصاف، فضلاً عن المنهج النقدي الْسَّوِي = تحميل الْسَّلَفِيةِ، التي هي منهج الْسَّلَفِ (اتفاق الصحابة) أخطاء وأغلاط الممارسات والتطبيقات التي وقعت من بعض الْسَّلَفِيِّينَ خصوصًا، والمسلمين عمومًا!!!
وهذا يشبه من يُحَمِّلُ الإسلام العظيم، بتشريعاته المباركة، وأحكامه العادلة = أخطاء وأغلاط وتجاوزات المسلمين اليوم !!! .
وبذلك يتم حصر الخلاف، وتتحقق المنهجية العلمية في التعامل مع أخطاء ومخالفات واجتهادات الْسَّلَفِيِّينَ المعاصرين وغيرهم، بمناقشتها، ومحاكمتها إلى منهج الْسَّلَفِ ( اتفاق الصحابة) ونتخلص من الفوضى العارمة، الموجودة اليوم مما نسمعه كثيرًا من الغلط والخلط والخبط في نقد السلفية وغيرها .
وفقنا الله وإخواننا المسلمين أجمعين لأقرب من هذا رشدًا .
حَوْلَ الْتَّسَمِي بالْسَّلَفِيَّةِ
وإما ما يتعلق التسمي بالْسَّلَفِيَّةِ، وانتشار هذا الاسم الشائع والواسع في هذه الأزمنة المتأخرة لم تكن موجودة - بحسب علمي - في أي عصر سابق، أو زمن فائت؛ فلم نجد في تطبيقات الأئمة والعلماء، وأهل الحديث المنتسبين للسلف (الصحابة) عقيدةً ومنهجًا = استعمال مصطلح الْسَّلَفِيَّةِ وصفًا لأهل السنة، كأن يقال نحن الْسَّلَفِيَّةِ، - أو نحن الجماعة الْسَّلَفِيَّةِ -، أو نحن الْسَّلَفِيُّونَ، أو قول بعض العلماء: أنا سَلَفِي، أو نحن سَلَفِيُّونَ ..
وإنما الأمر الشائع والذائع = استعمال الألقاب الخاصة بأهل السنة كمصطلح ( أهل السنة والجماعة) إلاَّ ما كان في هذا العصر الحديث بما لايزيد عن أربعين عامًا، ويعتبر شيخنا الألباني -رحمه الله - من أوائل من شهَّر وصف الْسَّلَفِيَّةِ، واستعمله، واحْتَجَّ لَهُ، وَدَعَا إليهِ، وَجَادَلَ عَنْهُ .
وأما الذي كان عليه العلماء قديمًا في استعمال هذا الوصف الْسَّلَفِيَّةِ ومشتقاتها = أنهم يعبرون عن هذه النسبة في باب العقائد، وذكر طريقة السلف وأهل الحديث، ووصف بعض الأعيان السائرين على ماكان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- فيقولون مثلاً : كان سَلَفِيَّاً، أو كان على عقيدة الْسَّلَفِ، أو هذه عقيدة الْسَّلَفِ؛ ولا يخفى الفرق بين قولهم : كان سَلَفِيَّاً، - أي يتحرى أتباع الصحابة، ويظهر التمسك بما كان عليه الْسَّلَفِ - وبين قول البعض: نحن الْسَّلَفِيُّونَ، أو الْسَّلَفِيِّةُ.
نعم لو أراد المتكلم أن يُبيِّن أنه على عقيدة الْسَّلَفِ فقال : أنا سَلَفِي، أوقال: أرجو أن أكون على عقيدة الْسَّلَفِ لكان ذلك من باب البيان والتعريف، وهو سائغٌ باتفاق .
ومسألة التسمية بالْسَّلَفِيَّةِ - في نظري - سهلة ويسيرة- ولا يجوز أن يقام عليها ولاء ولابراء، إثباتًا ونفيًا، بل يجب أن يقال فيها : " لا مشاحة في الاصطلاح " إلاَّ إذا صارت الْسَّلَفِيَّةُ، وأصبح الْسَّلَفِيُّونَ حزبًا من الأحزاب المخالفة للسنة ومنهج الْسَّلَفِ، كما ذكر ذلك شيخنا العثيمين -رحمه الله - في كلامه عن بعض المتعصبة الغلاة، المنتسبين للسَّلَفِيَّةُ الذين خالفوا المنقول والمعقول، ونسبوا مسالكهم المغلوطة، وطرائقهم المنحرفة إلى الْسَّلَفِ !!! .
حَيْثُ قَالَ - رَحِمَهُ اللهُ -: «بَعْضُ مَنْ انْتَهَجَ السَّلَفِيَّةَ فِي عَصْرِنَا هَذَا صَارَ يُضَلِّلُ كُلَّ مَنْ خَالَفَهُ وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ، وَاتَّخَذَهَا بَعْضُهُمْ مَنْهَجًا حِزْبِيًّا كَمَنْهَجِ الْأَحْزَابِ الأُخْرَى الَّتِي تَنْتَسِبُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنْكَرُ وَلَا يُمْكِنُ إِقْرَارُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مَاذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي طَرِيقَتِهِمْ وَفِي سِعَةِ صُدُورِهِمْ فِي الْخِلَافِ الَّذِي يَسُوغُ فِيهِ الْاِجْتِهَادُ، حَتَّى إِنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلَ كَبِيرَةٍ، فِي مَسَائِلَ عَقَدِيَّةٍ، وَفِي مَسَائِلَ عِلْمِيَّةٍ، فَتَجِدَ بَعْضَهُمْ – مَثَلًا- يُنْكِرُ أَنَّ الرَّسُولَ -ﷺ- رَأَى رَبَّهُ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هِيَ الْأَعْمَالُ، وَبَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ، وَتَرَاهُمْ - أَيضًا- فِي مَسَائِلَ الْفِقْهِ يَخْتَلِفُونَ، فِي النِّكَاحِ، فِي الْفَرَائِضِ، فِي الْعِدَدِ، فِي الْبُيُوعِ، فِي غَيْرِهَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُضَلِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا « اهـــ. من" لقاء الباب المفتوح"، السؤال رقم (1322)
تحسر وألم
إن كثيرًا من أهل العلم والدعاة والشيوخ والمصلحين تركوا التصريح بهذا الاسم المبارك الْسَّلَفِيَّةِ، وعزفوا عن استعمال هذا الانتساب الشريف، نتيجة = لتطبيقات وسلوكيات وتجاوزات ومخالفات كثيرٍ من المنتسبين إليه! وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والله المستعان !!! .
نُصْحٌ وَتَذْكِيرٌ
وأخيرًا : فإني أذكر بأمرين مهمين :-
الأول = أنه يجب على كل من أراد الحكم على الطوائف، والفرق، والجماعات، والأحزاب، والتيارات، والعلماء والشيوخ، والدعاة، ومناقشتهم، أونقدهم، أو نصحهم، أن يكون حكمهُ= مَبْنِيَّاً على دراسة منهجية مُنْصِفَةٍ، ومطالعة واسعة ومستفيضة وعادلة، متأنيًا في دراسة أفكارهم، وعقائدهم، وتطبيقاتهم، واجتهاداتهم، وممارساتهم، وَحَذِرًا مما وقع فيه كثير من الشيوخ وطلبة العلم، من = تَأَثُّرِ خطابهم الشرعي، وواقعهم الدعوي، ومسلكهم النقدي، بالعوامل السياسية، وتَأَثِيرَاتِهَا وضغوطاتها وتوظيفاتها، منتبهًا = للغلط والخلط الحاصل لكثيرٍ من الدراسات النقدية المستعجلة والسطحية، متحليًا = بحلية الإنصاف والصبر والحلم والعدل مع الفِرق والجماعات، والتيارات، والشيوخ جميعًا، وإن كانوا مخالفين في العقيدة.
الثاني = التذكير والتأكيد على التحلي بحسن الخلق، واستعمال الأدب في مناقشة الناس، وتصحيح أخطائهم، والرد على أغلاطهم، وتخيِّر الأساليب الراقية في مخاطبتهم، والتركيز على مناقشة الأفكار والعقائد، بدلاً من مناجزة الأسماء والأشخاص، - والبعد قدر الإمكان- عن نقد الذوات أو تجريحها، - إلاَّ إذا دعت الضرورة -، فضلاً عن التعصب للأشخاص، والغلو، والاستعلاء بفرض الآراء الاجتهادية على الآخرين.
هُمْسَةٌ فيِ أَذُنِ سَلَفِي
خِتَامَاً فإني أذكِّر نفسي وإخواني بأن الانتسابَ إلى السَّلَفِ، وما كان عليه الصحابةُ، والموافقةِ التامَّةِ لهم، وإصابةَ السُّنَّةِ، مطلبٌ عظيم، وفضلٌ كبير، وشرفٌ رفيعٌ، لكنه يبقى دعوى تحتاج إلى إثبات، وشعار يحتاج إلى تحقيق، فمجرَّدُ الانتسابِ إلى السَّلَفِ، أو التسمي بِالْسَّلَفِيَّةِ، لا يُعد دليلًا كافيًا لإثباتِ تحقيقِ السُّنَّةِ، وموافقة الصحابة - رضي الله عنهم - وإنما نحتاج إلى استعمال النظر العلمي، والمعيار والميزان الْسَّلَفِي، ومعرفة الْمُحَدِّدَاَتِ الْشَّرْعِيَّةِ، وَالْمَفَاهِيمِ الْفِكْرِيَّةِ التي استعملها العلماء والأئمة لضبط ومعرفة صواب الأفهام والآراء، وتقييم الدعاوى، وتمييز صوابها من خطائها، وقربها من بعدها لفهم السَّلَفِ ( الصحابة)، لإثبات موافقتها التامَّةِ أو الناقصة، فيما كانوا عليه في العقيدة، والشريعة، والعبادة، والسياسة، والأخلاق، إضافة إلى تحقيق مناط الاستدلالِ الصحيح، والنَّظَرِ الشَّرْعِي الْسَّلِيمِ، حقيقةً لا ادِّعَاءً ، لا سِيَّمَا وأنَّ المسلم لا يكونُ مُحقِّقًا للسُّنَّةِ، وموافقًا لما كان عليه الأسْلَافُ الصالحُونَ بمجرَّدِ الانتسابِ إليهم، ورفع شعار السنة والْسَّلَفِيَّةِ، فضلاً عن مجرد التمسك بهذا الاسم الشريف .
والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جمعه وكتبه : محمود بن موسى